Wednesday, December 2, 2009

بحة أدونيس أو عصفور أدونيس

شوقي يوسف بهنام
مدرس مساعد
جامعة الموصل / العراق





بحة أدونيس أو عصفور أدونيس

قراءة نفسية لقصيدة "العصفور"

شوقي يوسف بهنام - مدرس مساعد / جامعة الموصل

في أحد الصباحات الجميلة ، ومن قمة جبل شاهق ، انطلق عصفور محبوس الأنفاس ، من فرط الغناء ، بإطلاق زقزقا ته . من هذه الصورة ينطلق أدونيس لتقديم خطابه .. موقفه ... رؤيته للمدينة التي ينتمي إليها . وبهذا المعنى فهو مثل الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في قصيدته " انا والمدينة " ( 1 ) . ونص أدونيس الذي يحمل صورة العصفور هذا ، نص صغير ولكنه لا يختلف عن باقي نصوصه الأخرى من حيث البنية العامة لخطاب أدونيس الذي يتمحور، كما يبدو لنا ، حول رفض بنية خطاب الآخر . .. العصفور ، لا نستطيع أن نقول عنه أنه غير طائر، فهو من الطيور شئنا أم أبينا .. وللطيور مكانة في الرؤية الإسلامية . وعلى الرغم من أن شبل في معجمه الذي اعتدنا الانطلاق منه للوقوف عند الرموز في تلك الرؤية ، يذكر عددا من الطيور التي لها رمزيتها ؛ مثل اللقلق والهدهد والبلبل والسنونو والترغلة والحمام البري . ولا يذكر شبل العصفور ضمن هذه الأنواع ولكن مع ذلك فهو يدخل ضمنها .. ويذكر شبل عددا من الرمزيات للطيور هي :-

1- كونها إحدى معجزات المسيح .

2- كونها رمز شامل للهواء وللامداء الفسيحة .

3- وبالنسبة للمسلمين الذين يحترمون جميع القوى الشريفة والميزة المقدسة .

4- بعض الطير دليل فأل وبعضها الآخر دليل شؤم

5- يلعب رمز الطيور في الثقافة الإسلامية ودون ان يتمتع بالاعتبار نفسه كما في عبادات الطيور ، دور المصاحبة وهو دور ذو أهمية كبيرة ، أنه يصل ، فيما يصل ، بين نظام الأطعمة الممنوعة وذلك الأكثر تكتما ، أي نظام التراتب الداخلي في فصيلة الطيور ( 2 ) . ثم ينتقل هذا الباحث إلى الحديث عن الطيور الخرافية فيذكر ثلاثة يتحدث عنها المؤرخون هي : السيمورغ والرخ والعنقاء . (3 ) . نحن لن ننقل من شبل تفاصيل أنواع الطيور الخرافية لسبب بسيط هو ان عصفور أدونيس ليس طائرا خرافيا . ولذلك سننطلق من الرمزيات التي ذكرها شبل في حديثه عن الطيور الواقعية لأن عصفور أدونيس طائر واقعي . يقول أدونيس في هذا النص :-

اصغيت’ :

عصفور على صنّينْ

يضج كي تسيطر السكينة

( الآثار الكاملة ، مجلد2 ، ص 555 )

******************

هذا هو المقطع الأول من النص . ومن حقنا أن نقول : أين كان أدونيس وأين كان العصفور ؟ ذلك لأن أدونيس يتحدث عن عصفور وجبل !! . صنين جبل في لبنان أما العصفور فبلا هوية !!!!! . ولذلك فمن حقه ان يطير فوق هذا الجبل أو ذاك أو في هذا البلد أو ذاك . الا ان أدونيس لا يرى في العصفور هذه الصورة .أنه يرى فيه بعدا من أبعاد خطابه أو رمزا له . أنه مجرد مزعج .. موقظ .. صاحب ضجيج ، من أجل ان تسود في مدينته ... في سمائه .. السكينة . وما من شك ، ووفق ما نرى ان سكينة أدونيس أو بالأحرى سكينة عصفور أدونيس هي سكينة المعنى الذي تسوده فوضى وبلبلة .. كما يعتقد أدونيس طبعا .. إذن ووفق ما نقرأ أنه أصغى إلى عصفور وهو على جبل فهو الآخر على جبل .. في الأعالي . بينه وبين فوضى المعنى وبلبلته حجبا وحواجز .. بهذا المعنى يكون العصفور هو أدونيس نفسه . وسنرى في المقطع التالي إلى أي مدى تصح هذه الرؤية عن هذا العصفور . يقول أدونيس :-

كي يصبح َ الغناء

كشفرة ٍ السكين

يجرح بالبحة والبكاء

برودة المدينة .

( المصدر السابق ، ص 555 )

*******************

إذن المدينة باردة ..ميتة .. معطلة .. مدينتة ميتة بين مدن حية . لقت شاخت مدينة أدونيس ولم تعد صالحة للحياة . نحن انطلقنا من نهاية المقطع حتى نستطيع أن نربط بين المقطعين من خلال رؤية واضحة لا تصدم القارئ .. أدونيس هو ذلك العصفور الذي لا يطرب المدينة بزقزاته الجميلة .. بل يزعجها بصوته المبحوح . ان البحةBuhha تعني الخشونة في الصوت . وهذا يعني أن مخارج الأصوات لا تكون واضحة . ومن ثم فأن المتلقي لن يفهم ما الذي يريد قوله صاحب الصوت . ولكن بحة أدونيس لم تكن بسبب خلل في الأوتار الصوتية أو اضطراب في الحنجرة .. ان هذه البحة هي نتيجة الإفراط في الكلام والصراخ وبالتالي فأن صاحب البحة ، عندما يقول ولا يسمَع ، كأنما لا يسمع إلا صدى صوته من الداخل .. ومن هنا تنشأ الأزمة . نحن لا نقصد ، بالتأكيد ، البحة العضوية . بل البحة النفسية إذا صح مثل هذا التعبير . هناك في الطب النفسي ما يسمى بالخرس الهستيريHysterical mutism . وقد تكون بحة أدونيس هي من هذا النمط . يعرف الحفني هذه الحالة على أنها ( العجز عن الكلام أو رفض الكلام ، الناتج عن الشلل الهستيري بسبب صراعات ليبيدية أو عدوانية . ويحدث الخرس في بعض أنماط الفصام ، وخاصة التخشبي ، نتيجة سحب الشحنة النفسية عن العالم الخارجي المتعلقة به ، وكأن المريض يقول إنه لا حاجة به إلى الاتصال بالعالم الخارجي . وقد يصاب مرضى الذهان أو العصاب الحاد بالخرس كدفاع Defense ضد إظهار العدوان الشديد ، وكأنهم يسقطون على الكلام قوة سحرية ، بمجرد النطق به يمكنهم أن يلحقوا الأذى ويحطموا ، وقد يكون الكلام عند هؤلاء المرضى نوعا من العدوان اللفظي ، ويحميهم الخرس من العض والبلع والتمزيق بالأسنان ، أي من العدوان عموما ) (4) . ولا شك فأن هذا هو منظور التحليل النفسي لهذا النمط من الخرس . لقد زقزق العصفور ، أدونيس ، غنى وانشد . مل وتعب وكنتيجة لذلك ، كما قلنا ، فأن صوته قد أصيب بالبحة . إلى هنا ، قد لا تكون هناك علاقة بين بحة العصفور وهذا النمط من الخرس الذي نراه عند الذهانيين كوسيلة دفاعية . ولكن نعتقد أن عصفور أدونيس لم يحزن لأنه أصيب بالبحة ، بل أنه بكى لأنه لم يجد في غنائه وزقزاته من مبرر للأستمرار . أدونيس وصف بلادة العالم الذي يعيش به ، بعبارة جميلة وهي برودة المدينة . ان من لا يتذوق الجمال الذي أمامه ، فمن المؤكد أنه بارد .. بليد أو إذا استخدمنا مصطلحات الطب النفسيApathy ويفيد هذا المصطلح بتبلد الوجدان وفتور الانفعال Blunting of emotion أو انعدام الانفعال كلية في المواقف التي تثير في السوي انفعالا . ويوصف صاحبه بأنه متبلد apathetic (5 ) . وبالتالي فمن حق عصفور أدونيس .. أعني من حق أدونيس ، ليس فقط لا يتكلم ويدير ظهره للعالم ويظل منشغلا بصوته .. ببهاء صورته ، بل ان يبصق بوجه العالم ويضحك ويعود بأدراجه إلى جبله الشاهق ويغني كما يشاء ولمن يشاء . فهنيئا لهذا العصفور بعودته إلى حيث كان .......... يقول أدونيس في هذا المعنى في قصيدته " بعد السكوت :-

أصرخ’ بعد السكوت الذي لا ’يغامر’ فيه الكلام

أصرخ مَن منكــم’ يراني

يا بقايا بلا قامةٍ يا بقايا تموتْ

تحت هذا السكوت ْ

أصرخ’ كي تتوالد َ في صوتيَ الرياح

كي يصيرَ الصباح’

لغة في دمي وأغاني

أصرخ’ : مَنْ منكم يراني

تحت هذا السكوت الذي لا ’يغامر فيه الكلام’ ،

أصرخ كي أتيقـّن أنَيَ وحدي – أنا والظلام’ .

( الآثار الكاملة ، مجلد 1 ، ص 417 )

******************

ذالك كان فحوى صراخ أدونيس وولولته وحيدا في ذلك الظلام الدامس . والسؤال هو هل سمع احد من بقايا ذلك الصراخ وهل تمكنوا من رؤيته في ذلك الظلام ؟؟؟؟؟؟؟؟؟ .

الهوامش :-

1- بهنام ، شوقي يوسف ، 2006 ، حجازي في مدينته ، موقع الندوة العربية للشعر، تحرير الشاعر سيد جودة .

2- شبل ، مالك ، 2000 ، معجم الرموز الإسلامية ، ترجمة : أنطوان الهاشم ، دار الجيل ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 194-195 .

3- شبل ، نفس المصدر ، ص 195 .

4- د . الحفني ، عبد المنعم ، 1978، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي ، دار الطليعة ، بيروت ، لبنان ، ط1، ج1 ، ص 498 .

5- د . الخولي ، وليم ،1976، موسوعة علم النفس والطب العقلي ، دار المعارف ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية ، ص 49 .

e-mial:-shawqiyusif@yahoo.com

e-mail:-shawqiyusif@hotmail.com

No comments:

Post a Comment