Wednesday, December 2, 2009

صرخة من الأعماق قراءة نفسية لقصيدة "أنت مدانٌ .. يا هذا" للشاعر بلند الحيدري


صرخة من الأعماق

قراءة نفسية لقصيدة "أنت مدانٌ .. يا هذا" للشاعر بلند الحيدري

شوقي يوسف بهنام - مدرس مساعد / جامعة الموصل

shawqiyusif@yahoo.com

shawqiyusif@hotmail.com

ما أجمل التعبير عندما يكون نابعا من الأعماق ويعبر عن أحساس صادق من غير حاجة إلى زخرفة أو لغة مصطنعة سرعان ما تكشف عن زيفها لأول قراءة لها . هذا ما نجده في قصيدة " بلند الحيدري " التي ستتمحور عليها الأفكار التي سنحاول إدراجها في هذه السطور . و" بلند " لا يلجأ إلى ابتكار لغة خاصة به للتعبير عن معاناته ، ونقولها بصراحة ، لأننا واجدون ان هذا الشاعر لا يكتب من اجل ان يكتب .. بل انه يكتب ليقول .. ليخاطب .. ليعبر .. وباختصار لينقل خبراته الجوانية إلى الذي يستطيع ان يفهم هذه الخبرات .. اما الذي لا يريد ان يفهم فلا شأن ل" بلند " به . ومن البدء نقول أن الضمير الذي ينطلق منه عنوان القصيدة هو ضمير " الأنا الأعلى " عند الشاعر . أنه صوت تقريع ولوم ودعوة للكف عن السير وفق غي الشاعر إذا صح التعبير . " كف عن غيك يا هذا ولا تتمادى فيه .. انت لست غير مدان " هذا تأويل من عندياتنا للبعد الجواني لمضمون خطاب هذه الأنا التي ما انفكت تلاحق الشاعر .. كما سوف نرى من خلال قراءتنا لمقاطع القصيدة ، مطالبة إياه – على ما يبدو لنا – بالعودة إلى معايير الشاعر والتي يبدو انه انسلخ منها . وعلى اثر هذا الإلحاح من أوامر هذه الأنا .. الضابطة .. الحارسة .. المزعجة المقرفة معا ، كانت هذه الكلمات التي ضمنها " بلند " في نصه هذا والتي تعد تخريجا انفعاليا acting-out إذا استخدمنا مصطلحات التحليل النفسي وقد لا يكون هذا السلوك مطابقا للمصطلح بحصر المعنى . ولو كان " بلند مستلقيا على أريكة محلل نفسي لما كان اصدق من هذه القصيدة . لنقرأ القصيدة معا مقطعا تلو الآخر ملاحقين فقراتها مصطاطين زلاتها وهفواتها إذا كان ذلك بالإمكان . يقول بلند :-

. . . وخرجت الليلة َ

كانت في جيبي عشر هويات تسمح لي

ان اخرج هذه الليلة

اسمي . . . بلند بن أكرم

وأنا من عائلة معروفة

لم أقتل أحدا ً

لم أسرق أحدا ً

وبجيبي عشر هويات تشهد لي

فلماذا لا اخرج هذه الليلة َ

(الأعمال الكاملة ، ص 638-639) (1)

******************

ان عملية خروج " بلند " هذه الليلة على وجه التحديد ، يعتبر ، في تقديرنا ، تحديا بحد ذاته . ويبدو ان ثمة أقاويل قد انتشرت أو أشيعت حول شاعرنا . كنا قد اشرنا في دراسة سابقة عن مجموعة شاعرنا والموسومة " أغاني الحارس المتعب " إلى أن بلند كان قد اخبرنا بأنه " ولد وعاش خلف الباب "(2) . وهو كثيرا ما يردد هذه الفكرة وإن بعبارات مختلفة لكنها كلها تدور حول التهميش الشخصاني الذي رافقه ، على ما يبدو ، مدة طويلة منذ ان اصطدم وعي الشاعر بالوجود . ويبدو ان " بلند " كان قبل هذه الليلة التي قرر الخروج بها ، كان منكفئا على ذاته ، ملازم لكوخه الرمزي ... غرفته في احد الفنادق المتواضعة أو ما شاكل . ولا نريد التعليق على سايكولوجية هكذا نمط من الوجود . ان خروجه إذن هو التحدي لتغير هذا النمط من الوجود و لتسوية الحساب مع الآخر . وقد تجلت عملية التسوية هذه في شكل إشهار سيف تاريخ الأنا بوجه هذا الأخر . ان هذا التاريخ هو السرد الذاتي الذي افتتح " بلند " قصيدته به . فهو تاريخ ناصع البياض .. لا تشوبه شائبة ما . فهو ابن الحسب والنسب . وذو سلوك نموذجي مع الآخر .. هو لم يقتل احد .. ولم يسرق أحد . فيده إذن لم تطال أحد . فلم تسجل الأيام ما يمكن ان يكون سبة عليه . و لا ادري ، هل كان " بلند " يعتبر ان القيم الأخلاقية كلها يمكن ان تبدأ بالقتل والسرقة أو ان تختزل من خلالهما ؟ وإذا كان الجواب " نعم " فأن فهم بلند للقيم الخلقية هو فهم قاصر وفهم غير سليم . وإذا كان الجواب " بلا " فأن بلند لم يكن صادقا ، بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، فلا يعقل ان يكون بلند خاليا من كل الذنوب ؛ كبيرها وصغيرها وعلى مر تاريخه الشخصي بشكل أو بآخر ولا يذكر غير السرقة والقتل كمعيار للسلوك الخلقي السليم والنموذجي ؟ . هنا انتفاخ للذات .. هنا نرجسية لبنائه الخلقي .. هنا شعور بالتفوق والتمايز . من هنا هذا الحسد من " بلند " .. من هنا هذه الغيرة من بلند . ويترجم بلند هذه الخصائص والسمات بامتلاكه " عشرة هويات " . ما معنى هذا .. على الأقل من المنظور النفسي . الهوية دلاله على صفة للشخصية وهي علامة اجتماعية لها . فكل منا يتفاخر على امتلاكه هويات لصفات لها الاعتبار الاجتماعي للدلالة على الامتياز والتفوق . هل كل منا يجرأ ان يمتلك هوية الطبيب ما لم يكن طبيبا بالفعل . أي عمل خلاف هذا يعتبر من الوجهة القانونية انتحالا لصفة لا تتوافر للشخص المعني . وهكذا يمكننا ان نتعامل مع باقي الأدوار الاجتماعية أو رموزها ودلالاتها عبر نوع الهوية والرمز الذي تحيل إليه ، فهي من ثم قناة عبور إلى هذا الرمز أو ذاك . على المستوى النفسي الذي توفره الهوية هي وضعية الاطمئنان والأمن لصاحبها ومن ثم مرونة الحركة داخل هذا النسق أو الدلالة أو تلك . فلو كنت احمل هوية ضابط ... سأتصرف وبثقة وقوة وامتلاء بل وحتى الرعونة والانفلات إذا تتطلب الأمر لأترجم سلوك الهيمنة إزاء الآخر حتى اظهر له من أنا وبالتالي كيف ينبغي لهذا الآخر أن يتعامل معي ويحترمني ويخافني ويخشاني . وهكذا مع كل الهويات . ولا نريد ان نسأل " بلند " ما هي هوية هذه " الهويات العشر التي يحملها في جيبه " حتى أوحى لنفسه تلك القدرة للعبور أو الخروج لمواجهة الآخر ومعاتبته بل وحتى مسائلته عن سبب تحامله واتخاذ هكذا موقف منه . لا نعتقد ان بلند كان منطقيا لا مع نفسه ولا مع الواقع عندما قال .. أو تخيل انه يحمل " عشر هويات " ومتى حصل عليها لتمنحه هذه القوة للسخرية من العالم . هنا يتجلى هذا السلوك الهوسي بأعلى صوره عند " بلند " ويمكننا اعتباره دالة واضحة على هذا الانتفاخ والتنرجس المرضي لديه . لنرى كيف يترجم " بلند " هذا الانتفاخ في سلوكي مع عالمه اليومي . يقول " بلند " :-

كان البحر بلا شطئان

والظلمة كانت أكبر من عيني انسان

اعمق من عيني انسان

ورصيف الشارع كان . .

خلوا ً إلا من صوت حذائي

طق . . طق .. طق ..

اجمع ظلي في مصباح حينا . . وأوزعه حينا

وضحكت لاني

ادركت بأني

أملك ظلي

وبأني أقدر ان أرميه ورائي

ان اغرقه في بركة ماء وحل

ان اسحقه تحت حذائي

ان اخنقه بين ردائي

طق . . طق . . طق . .

الظل ورائي .. ورائي .. ورائي

ما أكبر ظلك أنسانا يملك عشر هويات

في زمن لا يملك أي هوية ْ

( المرجع السابق ، ص 639-640 )

*************************

هذا هو العالم الذي خرج إليه " بلند " . ونستطيع القول ، وبكل ثقة ، ان هذا العالم هو عالم غريب على " بلند " . ولذلك فأن من الطبيعي أو المنطقي ان لا يشعر به " بلند " فكلاهما على طرفي نقيض . كل منهما في اتجاه مختلف عن الاتجاه الآخر . ومن البديهي ان ينعته أو يراه على هذه الصورة أو على هذا النحو . انها صورة قاتمة .. سوداوية ، ولنقل بتعبيره هو .. مظلمة ، تملئه بالكامل . مضافا إليها الخواء والفراغ واللامعنى وإذا شئنا الدقة ، وهو ما نتوقعه ، ان " بلند " يفكر بعدمية الوجود وإلغائه . وكل المفردات التي استخدمها الشاعر هي مفردات دالة ، وبوضوح ، على ما نقول . البحر بلا شطئان . أليست العبارة مفارقة إذا أخذناه على حرفيتها . كيف يكون البحر ، وهو المملوء بالماء ، بلا شطئان . في تقديرنا انه تعبير عن ضياع العالم وفراغه . لا بل أكثر من ذلك انه مكتظ بالصمت .. بالخرس ... بالعجز عن التعبير عن ما يريده .. وعاجز عن احتواء الشاعر . هذا الصمت المميت جعل من الشاعر ان لا ينتبه إلا لصوت حذائه . هذا الانتباه تحول في ما بعد إلى انشغال هوسي وبؤرة تركيز الشاعر . سيصبح الحذاء فيما بعد رمزا إلى العالم نفسه . العالم إذن ليس غير حذاء " بلند " . هنا الانتفاخ صار أوضح وأكبر لدى الشاعر . ليس في الوجود غير " بلند " وهذا الحذاء اللعين . كان الشاعر مصدر للنور والضياء . يستطيع ان يوزع ظله وينشره كما يشاء . انها لحظة من هيمنة الشعور بالاطلاقية لدى الشاعر . كثيرا ما نجد مثل هذه اللحظات في بعض الأشكال السريرية لمرض الفصام . والواقع ان بلند ادرك سخافة مثل هكذا أفكار . فضحك . والضحك هو الآخر علامة ، إذا كان ذاتيا محضا .. اعني إذا كان مع الذات من دون وجود الآخر ، علامة على عودة الوعي لدى الأنا وبالتالي عودتها الى العالم متقبلة إياه أو رافضة له على حد سواء . وفي هذه الحالة يكون الضحك علامة على الصحة العقلية ووجود عنصر الاستبصار Insightلديها . على النقيض من ذلك يكون الضحك ، خصوصا ، إذا اخذ شكلا جهوريا على شكل قهقهة عالية Roar أو Horselaugh وعلى مرأى من الآخرين وقد يكون اجباريا ويشاهد في بعض حالات الهبفرينيا وبعض اضطرابات المهاد(3). ومن المؤكد ان " بلند " لم يكن ضمن هذه الفئة من البشر !! . فهو ضحك من سخافة أفكاره وغرابتها وكونه كان وحيدا في الشارع ولم يره احد . وقد يكون الضحك نتيجة وجود هلوسة بصرية يعتقد المريض فيها وجود شخص أمامه يلاعبه أو يلاطفه أو يثير فيه الضحك . وللمرة الأولى ، على ما يبدو ، أو كما يقول " بلند نفسه ، ادرك بأنه حر . وهذا الإدراك للحرية جاء من اكتشافه بأنه يملك ظله . امتلاك الظل إشارة واضحة على اعتقاد " بلند " بأنه مسلوب الهوية بالكامل. وذلك السلب جاء من العالم . وهو الآن حر وسعيد لأنه وحيد في العالم أو قل انه بلا عالم يزعجه أو يكدر صفوه . وهو سعيد بموسيقى أناه الداخلية الجميلة . ان التركيز على طقطقة الحذاء إنما هو إشارة إلى صد الوجه عن العالم . ويكرر " بلند " هذه الطقطقة لأنها تشكل لديه دلالة الانهمام بالذات . وإذا كان بلند حرا ويمتلك ظله فلماذا هذا الخوف والتوجس منه . هل يشكل الظل الماضي المقيت والمخفي في حياة الشاعر؟ هل يرمز الظل إلى الآخر .. صاحب السلطة الذي يلاحقه أينما كان ؟ لماذا هذا العداء له . نحن لا نصادر الشاعر ونفرض عليه تصوراتنا . مفردات الشاعر هي ذاتها تحيلنا الى هذه التصورات تلقائيا . له القدرة الآن على ان يهيمن على ظله . ان يخنقه .. ان يرميه ورائه .. ان يسحقه تحت حذائه هو الآخر . هل الظل يرمز إلى العالم الذي يزعج الشاعر ويخدش أحاسيسه ومشاعره . المهم هو ان هناك عداء بين الشاعر وظله . ليته لم يكتشف ذلك . يبدو أنه أصبح عبئا ثقيلا لا يطاق . وعلى الرغم من محاولات الشاعر على تجاوز هذا الظل .. لكن الظل لم ينفك من ملاحقته على ما يبدو .. حتى ان هوياته العشر لم تسعفه ولم تكن قادرة على جعل الشاعر من ان يتخلص من ظله . الشاعر ذاته في العبارات الأخيرة يؤكد لنا ما نذهب إليه . لم تعد هناك حاجة ما إلى كم الهويات التي يحملها .. سواءا أكان الرقم صغيرا أم كبيرا . والمسألة المهمة هو هذا الأسف والحزن والأنين الذي يلف الشاعر عندما عجز عن مواجهة الزمن الذي اتهمه بأنه بلا هوية . إذن هنا شعور بالخور والضعف بل وحتى الضياع في زمن ضائع . الشاعر هنا غارق في التشاؤم ولا أريد القول ان هذا التشاؤم قاد الشاعر إلى الإصابة بالضجر والملل . تلك إذن هي الليلة الأولى التي خرج بها الشاعر من صمته الإجباري إذا صح مثل هذا التعبير . يستمر الشاعر في تكراره عن التعبير عن انفعالاته في المقطع الثاني مع التركيز على بعض الانفجارات السلوكية المتناقضة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على السخط العميق الذي يكنه الشاعر عن العالم . يقول الشاعر في هذا المقطع ما يلي :-

غنيت ’

صفرت ’

صرخت ’

ضحكت .. ضحكت .. ضحكت

وأحسست بأني أملك كل البحر وكل الليل

وكل الأرصفة السوداء

وإني اجبرها الان على أن تصغي لي

ان تصبح رجعا لندائي

ان تصبح جزاءا من صوت حذائي

طق .. طق .. طق ...

ومددت يدي .. ما زالت عشر هوياتي في جيبي

هذا اسمي

هذا رسمي

هذا ختم مدير الشرطة في بلدي

هذا توقيع وزير العدل وقد مد ّ به زهو حز فمي

وأطاح بسن ٍ من اسناني

خدش بعضا من عنواني

وخشيت بأن ... فبلعت لساني

ومعي سبه هويات اخرى

اقسم لو مرّ بها جبل احنى قامته ولقال :

هي الكبرى

عن شعري

عن ادبي

عن علمي

عن فني

ولاني

احمل عشر هويات في جيبي

غنيت

صفرت

صرخت

ضحكت .. ضحكت .. ضحكت

ما أكبر ظلك انسانا ً يحمل عشر هويات في عتمة ليل

عشر هويات في زمن لا يملك إي هوية ْ

( المرجع السابق ، ص 640-642 )

****************

الشاعر لا يزال على حاله ولم تتغير أحزانه . وهناك فلتات لسان إذا صح التعبير . فتثبيت نقاط بعد المفردة دلالة على رغبة في الإحجام عن أكمال مدلولها الكامل ومعناها الصريح . إذن هناك مسكوت عنه في المقطع . يبدو ان لدى " بلند " إشكالية مع وزير العدل . ولماذا وزير العدل على وجه التحديد ؟ . معنى هذا ان هناك عدم إنصاف في القضية ومصادرة حقوق أو سلب حريات أو كبت أراء . وكان رد فعل الشاعر هو قمع المفردة وبلع اللسان . عبارة " بلع اللسان " دالة لعملية القمع تلك . كما ان الشاعر يذكر ، صراحة ، ان الوزير أصبح مزهوا لدرجة الغى الشاعر وهمشه . ولا ادري هل كان هذا التهميش من قبل سعادة وزير العدل للشاعر بسبب انتمائه الايدولوجي أم بسبب انتمائه القومي ؟؟؟ . ويستمر الشاعر بسرد ، وبفخر وزهو عن قدراته وطاقاته وما يمتلكه من خصائص وقدرات .. حتى انه أضاف سبعة هويات اخرى إلى هوياته السابقة . ولكنها هي الأخرى لم تجدي نفعا مع الزمن الذي لا يملك هوية أصلا . وبقي الظل هو الكائن الوحيد الذي استطاع ان يقبل الشاعر . فاستطاع ان يميزه من دجى الليل وعتماته . السلوك الذي قام به الشاعر في هذا المقطع هو الصفير . وهنا هو دال على الزهو والخيلاء التي لفت الشاعر وهو يسير في شارع معتم حاملا في جيبه سبعة عشرة هوية ولا احد يهتم به . كم أنت مسكين يا " بلند " . حقا ان " قدر المفكرين لحزين " كما يقول " نيتشه " فيلسوف الإنسان الأعلى . إذن فالحزن هو قدر الشاعر والمفكر وكل إنسان مختلف ومتمايز . يفاجئنا الشاعر في المقطع التالي أن إحساسه بالخوف ومن البوليس أو الشرطة على وجه الخصوص وهذا هاجس يعيشه المثقف العربي عموما (4) . هذا الخواف هو مصدر إزعاج مستمر للشاعر. وسواء عاشه الشاعر في مخيلته فقط أم على ارض الواقع . فهو مهيمن عليه بحيث تصبح رموز السلطة موضوع انشغال دائم لدى الشاعر . يقول " بلند " :-

في اليوم الثاني

كان ببابي شرطيان

سألاني من انت ..؟

أنا .. ؟ !

بلند بن اكرم

وانا من عائلة معروفة

وانا لم اقتل احدا ً

وانا لم اسرق احدا ً

وبجيبي عشر هويات تشهد لي

وبأني ... فلماذا .. ؟

................

****************

أن سلوك " بلند " هنا سلوكي دفاعي نكوصي . فهو .. هو ماذا ؟ .. هو لم يقل بأنه شاعر وبأنه يملك أدبا وعلما . بل نكص إلى العائلة والهويات العشر .... كان الشاعر اعتماديا إذن . وربما أراد ان يختزل بالحالتين معا فهو هذا وذاك . لا زالت قضية الهويات ، في تقديرنا ، أمر لا علاقة له بالواقع إلى حد ما . فقليل من الناس من يمتلك سمات وانتماءات مختلفة في وقت واحد . لأن الكثرة في الانتماء دالة على الضياع والتشتت والبعثرة . و لا يقبل " بلند " على نفسه ان يكون كذلك . ولا ان يكون دعيا على سبيل المثال .. فهو شاعر له قضية يسعى إلى تحقيقها . يستمر الشاعر في سرد حكايته مع الشرطيان فيقول :-

ضحكا مني .. من كل هوياتي العشر

ورأيت يدا تومض في عيني

تسقط ما بين الخيبة والجبن

- انت مدان يا هذا

- يا هذا

ماذا فعلا باسمي .. وبرسمي وبتوقيع وزير العدل

لم ادر .. لم ادر ِ

لكني ادركت بان هوياتي ما كانت الا شاهد زور

وبأني سأنام الليلة في السجن وباسم هوياتي العشر

وضحكت .. ضحكت .. ضحكت ..

***************

أنه اكتشاف متأخر . معنى ان الشاعر كان يعيش وهما . وهاي الآن الحقيقة تتكشف وتنجلي . كيف كان وكم من الوقت مضى على الشاعر وهو يرزح تحت مطرقة هذا الوهم اللعين ؟؟ . هل كانت يدا الشرطيان بمثابة صدمة كهربائية أعادت حالة الاستبصار أي وعيه بذاته فخلصته من ذلك السبات الطويل . فلمذا يصف الشاعر هاتين اليدين بالجبن والخيبة ؟؟ . المهم هو الخروج من تلك الغفلة ولذلك كان من المنطقي ان يطفح على سطح السلوك نوبات هستيرية من الضحك . كما هو واضح في نهاية المقطع .

في المقطع الأخير يخرج " بلند " بحكمة .. بقاعدة ذهبية للسلوك السوي .. بنموذج امثل للتعامل مع هذا الزمن . أعني .. زمن الشاعر . لنرى ما هي هذه القاعدة الذهبية التي خرج بها الشاعر بتجربته مع الزمن . يقول " بلند " :-

في زمن لا يملك أي هوية

سيكون مدانا من يملك أي هوية

مزقها .. مزقها يا سجاني

اسحقها .. اسحقها يا سجاني

... وسمعت خطاه ورائي

طق .. طق .. طق

كان البحر له .. والليل له .. وجميع الأرصفة السوداء

طق .. طق .. طق

( المرجع السابق ، ص 644 )

*****************

تلك هي القاعدة الذهبية إذن .. ان نمزق نحن أو سجانونا كل هوياتنا التي نمتلكها لكي نكون بلا هوية مثل زماننا الذي لا يملك هوية بل نسحقها تحت طقطقات الحذاء ونبقى نتيه في الليل مع البحر والأرصفة السوداء .. لا نسمع سوى صدى رتيب ومؤلم لطقطقات الحذاء المتهرئ اللعين ....

الهوامش :-

1- الحيدري ، بلند ،1980 ، الديوان ، دار الطليعة ، بيروت ، لبنان ، ط2 .

2- بهنام ، شوقي يوسف ، من كوة الزنزانة ؛ قراءة نفسية لمجموعة " أغاني الحارس المتعب " ، موقع الندوة العربيةwww.arabicnadwah.com

3- د. الخولي ، وليم ، 1976 ، الموسوعة المختصرة في علم النفس والطب العقلي ، دار المعارف ، القاهرة ، مصر ، ص 276 .

4- عالجنا هذه القضية عند الشاعر الكبير ادونيس في مقالنا المعنون " ادونيس وعصر الحذاء . راجع المقالة على موقع الندوة العربية .